صباح الخير يا أبي..
انتهت عدة أمي منذ شهر.. تخيل؟
ذاك الرباط المقدس الذي كان يجمعكما، ويجعل منها زوجة على اسمك وذمتك، أنت رجلها وهي امرأتك.. انتهى!
منذ أيام أتممت شهرك الخامس من الرحيل!
أتذكر كيف كان يمر الأسبوع دون أن أراك، فأخبرك أني سآتي الفيوم أقضي معكم يوما أو ليلة، أتذكر بهجة صوتك وأنت تقول لي "طب كويس اوي.."، لم تكن تقول الكثير من الكلمات المشجعة أو التي تعبر عن الفرحة، ولكن صوتك كان يعرف.. أو.. أنا كنت أعرف صوتك..
كيف حالك يا أبي؟
كل المنامات التي رأيتك فيها والتي حكاها عنك المقربين كانت مريحة.. مبهجة.. ومطمئنة..
إلا منامي الأول بعد وفاتك بأيام.. كنت فيه حزينا، تلومنا أن فارقنا!
كل المرات التي رأيتك فيها في الأسابيع الأخيرة كانت كمواصلة للحياة واستمرار للحديث في بعد آخر، كنا معا في كون مواز، لم تكن ميتا، ولم يكن بيننا بعاد، كأنك هنا، أحكي لك وتسمعني، تحكي لي وأتحمس معك، ننتظر خبر ما، أو نضحك من موقف أحدهم، كأنك هنا تماما..
ربما كانت هذه المنامات المتتالية هي الطبطبات.. أتصبر على الغياب بعشم في لقاء ليلي عابر وسريع..
زرتك مرة واحدة، شعرت بفرحك بعدها عندما رأيت في الليلة التالية أني احضر حفل كبير لتكريم ذكراك، يذكرك فيه زملائك ومرضاك وطلابك بكل خير وود وعرفان وامتنان..
قبل يومين رأيت في المنام أننا عدنا للحياة في الفيوم لظرف طارئ لمدة عام، وأننا وجدنا في البيت، وأخبرتنا أنك عدت لأننا عدنا، وسترحل مجددا عندما نذهب بانقضاء السنة.. هل يمكن أن تعود يا أبي؟
هذا النهار وأنا أرتب المفارش على سريري خطرت في بالي فكرة، فقلت سأنتهي من السرير وأطلبك لأخبرك بها، مرت ثوان قبل أن أكتشف أني لن أستطيع أن أحكي لك فكرة أعرف أنها ستعجبك.
لا يمر موقف إلا وأنا أفكر.. لو كنت هنا لأعجبك تنظيم تجمع العائلة قبل شهرين، ولو كنت هنا لسعدت بزفاف قريبتنا، ولو كنت هنا لحكيت لك عن التحديات الأخيرة التي عاهدت نفسي أن أنتصر فيها، ولتجادلنا، ولأخبرتني أنه: "كويس.. بس في حاجة أهم انتي ناسياها"، وكنا سنسمع معا ألبوم حمزة نمرة الجديد في السيارة، وكنت سأخبرك عن النظام الغذائي الذي جربته لأيام بهدف تنقية الجسد والروح من السموم، وكنت ستنصحني وقتها بالصوم وقراءة ما كتبه ابن القيم في تزكية الأنفس..
كانت حواجز ما تحول دون أن يعبر أحدنا عن مشاعره للآخر... لكننا كنا نعرف جيدا ما بيننا، وما لا يدركه سوانا، يثلج صدري كثيرا عندما أتذكر أني في الشهور الأخيرة أرسلت لك أكثر من رسالة أشكرك، وأخبرك أنك أفضل أب في العالم، متجاوزة برسائلي هذه شهور قبلها من الصمت الملغز والحديث المكتوم.
كنت أخبر أختي أن كل شيء تغير في وقت قليل، الأشياء تغيرت تماما! ولكني لم أصدق بعد أنك لست هنا.. ولم أصدق أنك لن تأتِ أبدأ!
خرجنا آخر الشهر الماضي لأول مرة بدونك، كل الأماكن كانت تذكرنا بك، يقابلنا السلم، فينظر أحدنا للآخر نظرة تقول: "بابا مش هنا.. مش محتاجين نفكر في حل أو ندور على أسانسير"، نظريا يجعل هذا الصعود أخف، والأحمال بعيدة عن كواهلنا، ولكن تخيل يا أبي أن العكس هو ما حدث!
ذهبنا لمطعمك اللبناني المفضل، ذاك الذي أصررت على الغذاء فيه اليوم السابق لرحيلك، لم ينافسني أحد في الطبق الذي اعتدنا العراك عليه أنا وأنت، ولم يتفهم أحد ذوقي، طعم الأكل كان عاديا لأقصى درجة، أو كان لا طعم له، قلت لنفسي أني لن أذهب إلى هناك أبدا..
ذهبت للبيت والعيادة، الأشياء ماتت! أحد أحباب المنطق سيقول لي: بل تفسد الأشياء بقلة الاستعمال والتراب، ولكني أقول لا. أقول كما يقول درويش: فإن البيوت تموت إذا غاب أصحابها. عندما فتحت الأبواب، شعرت أن المكان حزين، ربما لأن كل الأشياء، حتى الأوراق المبعثرة على مكتبك والطاولات.. أصبحت عديمة المعنى، لا تهم أحد، ولا يبحث عنها أحد، ولا يحرص عليها أحد. كلما أعدت النظر إلى مكتبك وأدراجك وأنا أفكر في حرصك على نظامهم وترتيبهم وألا يمسهم أحد.. أشعر بعبثية كل شيء..
مر عام الآن على وجودي في بيتي الجديد، البيت الذي لم تزرني فيه ولم تره إلا في الصور.. أنظر بعينيك في كل أركان البيت، وأقول في سري: "يا ريتك شايف يا بابا، أنا بقيت كبيرة، مرضية ومبسوطة في بيت جميل.."
تطاردني أحاديثنا الطويلة، وأفكارك ومشاريعك ومحاولاتك للقفز على كل احباط بفكرة أقوى، أتذكر محطات عجزك المتتالية، وأقول لنفسي كيف كان هكذا صبورا رغم كل انكساراته؟؟
أذكر اليوم الذي عدت من زيارة طبيب الأسنان وقد خلعت معظمها، والأيام التي قضيتها في انتظار "الطقم"، أذكر عزوفك بهدوء وحزن عما تحب من الطعام لأنه "ناشف ع الطقم"، وكنت وقتها في أربعيني، وأذكر أول عملية في عينك، وأول مرة أراك فيها مسنودا، وأذكر كسر رجلك وآلام الجبس ومضاعفاتها، أذكر أول مرة استخدمت الكرسي المتحرك، وأول مرة أدفعك به، وأنت –ذو الهيبة والشدة- تستسلم لمن يحرك كرسيك في هدوء وسكينة، أذكر أول مرة قلت أنك لن تذهب لمعرض الكتاب –وأنت صاحب الطقس السنوي المقدس- لأنك لم تعد تستطيع القراءة..
أفهم تماما مضي عمرك وأنت تبحث عن من يفهمك، يسمعك، يساندك.. وأشفق على قلبك الذي حاصرته الإحباطات فقتلته قبل أن يقتله المرض.
وأعرف أن الله لا يرضى لك الآن إلا قلبا خاليا من الهم، ودارا خالية إلا من النور، وسعة لا مرض فيها ولا هم ولا ضيق.