
صباح غريب آخر ،و مزاج ينقلب من النقيض للنقيض في لحظة مجددا ، مرور عابر أمام مرآة تركن على الحائط أبدا ، تزيح بعده خصلات شعر طائرة للوراء ، ثم تطمئن لسكون خصلات تائهة وراء أذنيها ، تتجاوز عتبة الغرفة ، و تتجه دون تفكير لتغسل وجهها ، في محاولة لاستجلاب صباح حقيقي ، بلا فائدة ..
فوق الحوض ، مرآة أخرى ، كما العادة تمضي لحظات الدهشة الاولى من هذا الوجه الذي يطل بإصرار من المرآة ، تبتسم لأنهه تدرك أسرع من المعتاد أنه وجهها ، و لأنها تستحق على أقل تقدير في هذه الحياة .. أن تبتسم لوجهها في المرآة ، تمرر سبابتها بين عينيها مرورا بأنفها و حتى ذقنها ، بين شفتيها تضع سبابتها لبرهة ، تبتسم مجددا ، و تخرج.
الدولاب .. خروج هذا الصباح ؟؟
لا
تفتح ستائر الشرفة الكبيرة عن آخرها ، ثم تزيح الشبابيك و هي تقسم على الشمس و على نسيم الصباح أن يخلقوا في هذا اليوم فرقا.
من الدرج الأخير تخرج دفترا يرجع عمره لأيام المراهقة الأولى ، الصف الأول الثانوي ربما، بدأت فيه محاولة فاشلة
-كالعادة - لكتابة مذكراتها ، بين ثنايا النصف الأول من الدفتر ضفيرة سوداء ناعمة في آخرها شريطة وردية اللون ، و قبل المنتصف ضفيرة أقصر من سابقتها ، بشريطتين مضفرتين لهما درجات اللون الأزرق.
تداعب أطراف شعرها النائمة في نعومة على رقبتها و أوائل ظهرها، و تميل برأسها يمينا و يسارا تفحص طوله .. كيف أصبح الآن ؟
قصته في الست شهور الأخيرة مرتين ، في الأولى ..لتغيظه ، و في الثانية .. لتغيظه أيضا .
لم و لن يعلم شيئا عن إحدى المرتين في الغالب غير أنها تستمتع عندما تنظر لوجهها في المرآة بعينيه ، فتلامس الأطراف القصيرة المتطايرة في عشوائية منمقة جدا ، و تخرج له أطراف لسانها ، مبتسمة في دلال .
بخطوات واسعة و حركة سريعة تزيح الأثاث من الصالة الواسعة لأطرافها ، تملأ الأطراف و تسكنها بكل ما تلقاه في طريقها ، هي تعرف حتى و لو لم تبح بأنها تهرب من اللجوء للأركان ، تشغل نفسها لئلا تهرب منها لوضع الجنين على أرض ركنة ما و وجهها للحائط مدفون بين ذراعيها.
على اللابتوب المرفوع فوق أحد رفوف المكتبة العالية ، أعدت مسبقا قائمة جدبدة من أغاني لم تهتم بأن توافق ذوقها تماما ، و في غرفتها ترتدي الفستان الأرجواني ذو الذيل الذي يلامس منه الأرض شيئا بسيطا ، تنزع من صندوق حليها في خفة القرط و العقد خاصة الفستان ، حافية القدمين تركض للصالة التي أزاحت للتو للأطراف أثاثها و ملأ فضاها صدى الموسيقى المنبعث ، دون أن تفكر أو تحسب شيئا تترك لخطواتها و جسدها الانسياب مع الإيقاع ...
لا تفكر حينها في زمن ، و لا أشخاص ، و لا آلام الصدر أو جروح المضغة التي تحاول الحياة داخله ، تنسى كل شئ و أي شئ و تغمض عينيها إلا عن أطياف لأسرتها تمر أمامها و أثاث مكوم على الجوانب و تتجاهل رائحة للحنين تتسرب إلى مسامها شيئا فشيئا ....
تدرك أختها واقفة على بعد خطوات منها ، صامتة في ذهول ، تأخذ بيديها لتشاركها الرقص ، و تستجيب لها الأخرى بذات الذهول ، تبقي أصابعها في يدها و هي تنظر لها مأخوذة و تسألها
"انتي مكنتيش بترقصي كده ؟؟ "
تبتسم لها دون رد ، و تترك أصابعها ، متجهة إلى سريرها حيث تركت الضفيرتين داخل الدفتر ، تأخذهما، و في طريقها للنافذة تفك شرائطهم ، تفتح الشباك على مصراعيه ، تمضي لحظات تائهة في السماء ، ثم تبدأ في فك الضفائر و هي تمسكها بين أصابعها ، تنتهي من فكها ثم تبسط يديها خارج النافذة و تترك الهواء يأخذ من بين يديها شعيراتها المتباينة الطول المموجة بفعل الضفيرة، تتابع في الهواء خصلاتها الطائرة هنا و هناك ، و تلك التي سكنت على الأرض ..
تغلق النافذة ..
تختفي حتى الأطياف من أمام عينيها .. و دون أن تشعر لعنت سرا هذه الحياة التي ترغمها على اتخاذ قرارات ..
تحاول مواصلة الرقص .. فتعجز عن ذلك ، و يفقد جسدها قدرته على الانسياب مع النغمات ، فتقف في مكانها ، و تغطي عينيها بذراعها ، كما الأطفال ، تمد شفتيها للأمام مقطبة الجبين في تذمر مضطرب ، تدبدب بقدميها على الأرض و هي تصر في صوت يهمس بقوة ..
" انا كان معايا حق ، و كبيرة و اد كلامي ، و مش هقعد في الركنة أعيط "
تسمعها أمها ، فتضحك منها ، و تقول لها : " طب يا كبيرة ، رجعي الصالة زي ما كانت ، و مفيش كبيرة تحط في فستان زي ده دبوس عليه دباديب .. ربنا يهديكي ."
تفك الدبوس و تلقي به جانبا .
ثم تجلس حيث هي في منتصف الصالة الواسعة ، الفارغة إلا منها و الأثاث المركون على الأطراف ،تخفي عينيها بذراع و بالثانية تنزع عن رقبتها العقد و عن أذنيها القرطين و هي تحدث نفسها بأنها تعلم يقينا أن شعرها عما قريب ستعود ضفيرته لطولها ، و أنها قصدت من قرارتها تلك التي تطاردها لعنتها .. تحري الحق .. و الحق أحق أن يتبع.
تلعن في سرها تلك الثلاثية التي تطاردها بلا سأم ...
الحنين ، الانتظار ، ادعاء قوة لا تملكها .
تلعن هذه الثلاثية ولا تتخلص منها ..
حتى بعدما تحررت من ضفائرها و أهدتها للقمر.
في ذات الفستان على سريرها بأغطية كثيرة تدفن وجهها في مخدتها المحببة و هي تتنفس مزيج من مشاعر ليس لها اسم
فقط تعدها .. أن الصباح القادم سيهبها الأفضل .. و يمنحها ما تنتظر.
سيفعل.
(يارب يفعل بقى.)