الجمعة، 30 أبريل 2010

الشوارع حواديت



 

لولا الشوارع ، حواديتها .. يعلم الله وحده أن أياما كثيرة ما كانت لتمر إلا و قد تركت فيّ خرباشتها علامات واضحات لا يخفين على ناظر ، في الشارع تذوب كل تفاصيل حواديتي الخاصة ، تتراجع كل مشاعري المتداخلة بالحيرة، أو الوحدة أو الألم ، لأصبح أخرى ، تصنع تفصيلة متناهية الصغر في نسيج كبير يذخر بالحواديت الصغيرة أيضا صانعا حدوتة كبيرة لا يلم تفاصيلها أو يردك عمقها أيا كان ..حتى لحظات الفرحة و البهجة المبررة أو غير.. تقسم هناك إلى وحدات كثيرة تنتشر برقي في محيط لا أستطيع أن أقدره ، لتسع عددا آخر من شركاء الحدوتة الكبيرة .

في الجامعة كنت أحب أن أقضي أوقات الانتظار و صديقتي في وضع سيناريوهات تخص حواديت الآخرين ،نلحظ شابا و فتاة أمامنا في الحديقة ،سيدة تصرخ في الموبيل ،شاب يجلس وحده بيمينه ساندوتش و يساره في كيس أكبر ليلحق الساندوتش بالذي سبقه ، عامل نظافة جالس على الرصيف منذ أكثر من ساعة ،و آخر يبحث عن شئ يبيعه أو يأكله في الصناديق ، فتاة بإسدال في يدها مصحف، و أخرى تمسك مرآة تكفتي بالنظر إليها و رفع حاجب لتتأكد فيما يبدو من وجوده هناك فوق عينها ، مجموعة شباب و بنات تأكل أو تغني أو تضحك أو تصرخ ..... تتبارى كل منا في تخيل الحدوتة الـ سبقت اللحظة ،نطلق للخيال عنان الهروب من قيمنا الخاصة و معتقداتنا الشخصية و قوالبنا النمطية جدا و المعتادة جدا ، لنعتنق قيمهم التي نتخيلها أيضا و نخمنها مما تركوه لنا ظاهرا من معطيات ، لم أجد من يشاركني اللعبة منذ شهور أو سنوات .. لا أذكر ، غير أني أذكر أني كنت جامحة فيما يخص حواديت الآخرين ، على الرغم من أن حواديتهم عادة كانت لتتشابه مع حواديتي الخاصة في لحظة ما ، إلا أني كنت أحب أن أراها مختلفة و أكثر تطرفا .. في كل الحالات كانت للحواديت الأخرى التي تحكي نفسها في الشارع قدرة على انتشالي من حواديتي الخاصة مهما كانت تفاصيلها على تلك الدرجة من التعقيد و الإلحاح التي أصورها لنفسي.

أصدق أن الشوارع تضاهينا في الإنسانية ، تشبهنا في حزننا و ضحكنا و تقلباتنا غير المنطقية ،حتى رغباتنا المكبوتة و المختبئة في البكاء أو التمرد أو الثورة ، العجوز التي تصطدم بي فجأة بينما كل منا غارقة في أفكارها التي لم تخطط للغرق بها ، كانت تهم كل منا بـ(الزغر) إلى الأخرى و النيل منها بزفرة بركانية أو نظرة احتقار أو سب سريع خافت أو حتى تمتمة باللعنات .. لم تعرف احدنا لماذا ضحكنا جدا ، و لماذا بادرت هي بالاعتذار رغم أني الأصغر و الأشد عودا و المخطئة غالبا .. و المفترض بها أن تعتذر ، ربما اصطدمنا لتسألني عن " عربيات السيدة .." فأدلها عليها و أخبرها أنها " ف طريقي .. نروح سوا .. " ، فتدعو لي و أنا أحمل لها حقيبتها لتركب " ربنا ينورلك طريقك و يفرح قلبك .." ، فيبتهج اليوم فجأة ، و تتحول البنايات المتهالكة القدم و التي شعرت بها منذ لحظات تقترب من بعضها لتنطبق على صدري إلى قوالب أسمنتية تتقن الرقص على وقع حركتي و خطواتي ، تحوي بداخلها عددا أكيدا ممن ذاقوا فجأة طعما للبهجة بعد مرارة ما .

نفس الشارع الذي أتجاسر و أنا أعبره و يطل بعد مروري سائق من الشباك مهديا إلي تحية صباحية في هيئة وصلة من الصراخ غير المفهوم و الذي لا يحتمل أن يكون وديا أو لطيفا ، أعبره في مرات كثيرات كأميرة ، يقف السائق على بعد أمتار مني مومئا برأسه لي لأمر رافعا كفه بأدب ، أرد له أدبه بابتسامة لا يضرني أن تشعره أنه بطلا، أو قام بعمل هام ينتفخ من أجله صدره و لو شئ من دقيقة ،من يدري .. ربما طرد للتو من عمله ، أو ضاع موبايله أو ضيع موعدا هاما ، ورغم هذا كتب له أن يكون دوره في الحدوتة الكبيرة التي نرسم تفاصيلها بلا وعي .. أن يكون بطلا ، كما كتب لي أن أكون أميرة للحظة .

الشوارع ليست قاسية و لا قميئة و لا متبلدة و لا سخيفة في المطلق ، الشوارع تشبهنا، تستطيع أن تحتوينا تماما بمقدار ما تستطيع أن تكون عامل طرد مركزي ، و تستطيع التخفيف عنا في مرات يشبه عددها المرات التي تكون فيها ثقلا جثيما على صدورنا .. أذكر مرة ركبت فيها الميكروباص باكية، و لم أجد مكانا إلا بين سيدتين ، طوال الطريق لم ترفع إحداهما كفها عن ظهري ، و لم تكف الأخرى عن الدعاء لي و هي تمصمص شفتيها، و أذكر أخرى كنت في أكثر لحظات الحياة نشوة و ركبت بجوار فتاة تقاربني في السن و يبدو المرض و قد نال منها و لم يبق فيها سوى الهزال ، طلبت منها أن تنام على كتفي ففعلت دون ان تنظر إلي أو تتبين ملامحي أو تشكرني ، و أذكر مرات كثيرات كنت في قمة النقمة و على أعتاب الانفجار و ذابت كلها بحكايات السائق لجاره عن مغامراته الـ ارتجلها توا ، أو ساندوتش فول ( من على عربية) تصر أن آكله الأم جدا الجالسة بجواري فأفعل إكراما لحنوها الصادق، أو محادثة رجلين خلفي تعارفا توا غارق أحدهما في الديون و يمضي الآخر ثلثي وقته عند الأطباء ، أو صغيرة تحكي لي بلا توقف عن صديقاتها في المدرسة و الأبلة التي طردتها " عشان معملتش الواجب " أو صاحب الكشك الذي يطلب مني أن أبتسم " عشان مفيش حاجة تستاهل " و يعطني "كبشة" من الحلوى ضاحكا و هو يقول " و دول من عندي عشان متزعليش " فآخذها منه و أضحك و أخبره " خلاص مش زعلانة" أو حتى الموظف في المكتب المجاور الذي يستوقفني ليسألني عما أفعله في هذا المكان و يصر باسما أني أستحق مكانا أفضل .... لا أعرف تحديدا ما يفعله بي هذا الشكل من التواجد ، غير أني أحب التماهي معه ، و أحب ذوباني فيه كتفصيلة دقيقة ذات معنى ، و أحب تحولي فجأة من رغبة في الانسلاخ و الهروب مني .. إلي حبي لنفسي بكل ما بها من عيوب و تناقضات كـ (جزء) شديد الإنسانية من (كل) لا يقل إنسانية مهما بدت تفاصيله قبيحة من قريب .

هناك 3 تعليقات:

Unknown يقول...

u made my day

thanks

غير معرف يقول...

:) كنت أظن أنني المغرمة الوحيدة في تخيل الاحداث وربط القصص واختلاقها :) ..
لسه متابعة لما يكتب !
^^
تحياتي

Ahmed Elfeky يقول...

بداية ثلاثين يوم موفقه إن شاء الله
:D

 

أوركــــيد أبيض Copyright © 2009 Flower Garden is Designed by Ipietoon for Tadpole's Notez Flower Image by Dapino